للحكاية الشعبية قيمةٌ كبيرة، فهي مادة خصبة لبحوث شعبية واجتماعية وتاريخية وفكرية ودينية وأدبية وثقافية وإنسانية، وقد عنيت بها شعوب كثيرة، جمعاً وتوثيقاً ودراسة، وتكاد في العصر الحاضر تنسى، بسبب ما استجد من وسائل الترفيه والتسلية والتعليم، ولقد كانت إلى وقت غير بعيد الوسيلة الأولى لذلك كله.
وليست الغاية من تدوين هذه الحكايات إحياءها، وإنما حفظها وتوثيقها، ووضعها مادة أمام الدارسين، فقد يتيح هذا الحفظ إمكان توظيفها في أشكال جديدة، ولذلك قد تبدو في بعض الحكايات عناصر أو مفاهيم أصبحت غير مناسبة لهذا العصر، ولكن هذا لا يحول دون حفظها تدويناً وتوثيقاً لما لها من أهمية وقيمة.
ويضم هذا الكتاب بين دفتيه أكثر من مئة وخمسين حكاية شعبية، مروية بالعربية الفصيحة، كما سمعت من غير تعديل في شخصياتها أو حوادثها أو مغزاها، ولا تغيير في بنيتها العامة، ولكن تم الحرص على روايتها بالعربية الفصيحة لأنها الوسيلة الأرقى والأبقى، وليست الغاية من توثيق الحكايات دراسة اللهجة العامية، التي هي لهجة متغيرة، ودرسها لا يخدم العربية الفصحى في شيء، بخلاف الشعوب الأوربية التي دون كل شعب منها حكاياته باللهجة العامية التي هي لغته القومية، وليس علينا أن نقلدهم، لأن اللغة العربية هي لغة العرب جميعاً، وهم شعب واحد، ومهما تعددت لهجاتهم أو اختلفت فهي ترجع في جذورها إلى العربية الفصيحة، ومهما ابتعدت عنها فلا يمكن أن تستقل، أو تتحول إلى لغة، بخلاف اللهجات الأوربية التي تحولت إلى لغات لأن كل لهجة ترجع إلى لغة وهي خاصة بشعب دون آخر، ولذلك كله لا مسوغ لتدوين الحكايات الشعبية العربية باللهجات العامية، والضرورة كل الضرورة في تدوينها بالعربية الفصيحة.
وتمّ تصنيف الحكايات في نوعين، الأول حكايات طويلةّ، والثاني حكايات قصيرة، والمعيار في هذا التصنيف ليس الحجم أو عدد الصفحات، وإنما البنية العامة، بما فيها من حوادث وشخصيات. وقد تتابعت الحكايات داخل كل نوع من غير أن تخضع لترتيب معين، كي تحافظ على إدهاشها للقارئ، وجعل كل نوع في قسم، وكان البدء بالدهاليز، واحتوت على ثلاثة، وقد ذيلت كل حكاية بتعليق، قد يطول أو يقصر، وفق ماتوحي به الحكاية نفسها، والغايّة منه فتح آفاق على جوانب مختلفة في الحكاية، ولقد تم وضع مدخل للحكايات تضمن الكلام على التراث الشعبي عامة والحكاية الشعبية خاصة.
ومعظم هذه الحكايات سمعت في مدينة حلب وريفها، من عجائز متقدمين في العمر، وأكثرها -ولا سيما الطوال- من رواية جدتي لأبي، وقد توفيت عام 1970 وكان لها من العمر خمسة وثمانون عاماً، وقد سمعتها عنها مرات عديدة، ويرجع اهتمامي بهذه الحكايات وتدويني لها إلى عهد بعيد، وقد تراكمت عندي مع الزمن.
وثمّة روايات لبعض هذه الحكايات في معظم أرجاء الوطن العربي، قد تتفق معها أو قد تختلف، وبعضها له روايات في بقاع مختلفة من العالم، ومن هنا تأتي قيمة الحفظ والتدوين والتوثيق، إذ تعني التواصل واللقاء، ولا تعني البتة شيئاً من الإنغلاق، وسيكون للحكايات الشعبية مستقبلاً عن غير شك قيمة لا يمكن التنبؤ بها الآن، وحسبها أنها نتاج وجدان شعبي صادق وعفوي، ومثل هذا النتاج جدير من غير شك بالحفظ والتدوين، بل جدير بالقراءة والإفادة منه والدرس.